عندما سمعتُ أن أبي مات، لعبتُ الكرة حتى كلّت قدمي. لم أعرف طريقة أخرى لتدشين هذا الحزن إلا في ذلك الفناء المربع، ذي الطلاء الذي قشر نفسه عشر مرات على الأقل، كل صيف وشتاء، منذ دحرجتُ كرتي الرعناء فيه لأول مرة. كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن أخلق في صدري لهاثاً يليق بالصدمة الثقيلة على عقلي الصغير. كنتُ أركل الكرة، ويعيدها إليّ الجدار، فأركلها إليه مرة أخرى، وبعد مئات المرات، أيقنتُ أن الجدار لن يبتلع الكرة، وسيظل يعيدها إليّ في كل مرة، وكذلك السماء، لن تبتلع أقدارها، ولن تتراجع أبداً.
جلستُ على حافة العشب الذي بدأ الصيف يأكل أطرافه، وأسلمتُ أذنيّ لأذان العصر الثقيل، وفكرتُ أن يد أبي لن ترافقني إلى المسجد، وعليّ من الآن فصاعداً أن أذهب إلى الله وحدي. احتضنتُ الكرة، وألصقتها بخدي، وشممتُ رائحة جلدها الممزوج بطلاء الجدار، والعشب المريض، ودمعتي المالحة. كانت أول شيء يشهد على بداية حزني الطويل، ووحدها الذي تفهمه جيداً، ولا أشك في ذلك، أليست هي الوحيدة التي يمكن أن أركلها وأحضنها معاً، دون أن يثقبها هذا السلوك الغريب
كنتُ أمشي بمحاذاته وهو يشذب خطواتي منذ دلفتُ شارع الجامعة الداخلي، وعيناي معلقتان على الرصيف ذي البقع المربعة التي أتجاوزها واحدة بعد أخرى مقترباً من مبنى المحاضرات، وعقلي يدور في ساقية الأفكار العادية التي قد تشغل أي طالب قبل المحاضرة. فجأة، تدحرجت تلك البيضاء الصقيلة داخل محيط بصري، كرة ثمينة من تلك التي لم أكن أحلم بها في طفولتي، لاسيما بعدما مات أبي. أوقفتها بقدمي، فبدت ملامحها أكثر إغراءً بعد ثباتها، وراحت ترمقني من أسفل بتلك الأعين السداسية الواسعة، ثم تتمسح بباطن قدمي مثل صديقة قديمة
لم أنتظرها حتى تراودني أكثر، رفعتها بهدوء، وبقدم واحدة، ولكزتها قليلاً فقفزت حتى يدي، وعندما ضممتها في المنطقة الحميمة بين ذراعي وصدري، شعرتُ أن قلبي يخفق مثل هدف. رفعتُ رأسي لأتأمل فريق الجامعة لكرة القدم النسائية يتدرب فوق مساحة العشب الشاسعة، ثلة من الشقراوات، يتبادلن عشرات الكرات المتقافزة بين سيقانهن البيضاء، والشمس تنعكس على أحد عشر جدولاً ذهبياً مربوطاً على هيئة ذيل حصان.
ناولتُ الكرة للفتاة التي اقتربت، وشكرتني بابتسامة، ورددتُ عليها بأقصى ما مكنتني أنجليزيتي من لطف.
***
ظلت الكرة المثقوبة تحت سريري عشرين سنة كاملة. تغير السرير عدة مرات ولم تتغير الكرة التي تحته، ولا الطفل الذي فوقه. ما زلتُ أتذكر تفاصيل شرائها بفوتوغرافيةٍ لا يغيرها الزمن أبداً، كانت ابنةً مرتقبة لوعد كبير من أبي، ووعود أخرى كثيرة مني، نكثتُ بعضها وأوفيتُ البعض الآخر. وعدني أن يشتري لي الكرة لو حفظتُ الممتحنة، فحفظتها في يوم واحد، ووعدته ألا أضيع الكرة، ولا أهشم بها مصابيح الفناء، ولا زجاج السيارة، ولا ألعب في الشارع. اصطحبني إلى البقالة القريبة بعد صلاة المغرب، ورأيتُ يده التي كانت آثار إبر التغذية ما تزال بينة على ظهرها تخرج كتلة النقود السميكة من جيبه، انتقى منها ورقة العشر ريالات السوداء، والخمس ريالات الوردية، وناولها البائع، وتأبطت أنا الكرة الخشنة، ويد أبي، وفي فمي أكبر ابتسامات الدنيا.
نسيتُ الممتحنة، ونسيتُ الكثير من القرآن بعدها، وهشمتُ نصف مصابيح الفناء، ومرآة السيارة اليسرى، ولم أتردد في لعب مباريات طويلة بعرض الشارع وطوله، لاسيما في رمضان، تحت وقع الترتيل المهيمن لصلاة التراويح التي لم تعد تستهويني كثيراً منذ مات أبي، بقدر ما خلبت لبي تلك الكرة التي أمشط بها الشارع، وأتجاوز سيقان صبيان الحي الهزيلة واحداً تلو آخر، وأعلن أمامهم بفصاحة أقدامي أني أمهرهم على الإطلاق، ولا قبل لهم بي، أنا سيد الكرة، ذو الحذاء القماشي المدجج بأربطة ملونة، ابتكرتها أنا، لتتحول تدريجياً إلى صرعة مؤقتة في الحارة.
نكثتُ كل وعودي لأبي تقريباً إلا واحداً: لم أضيع تلك الكرة أبداً
* * * * *
اخترتُ الكرسي المحاذي للنافذة، ورحتُ أراقب من خلال الزجاج السميك تدريبات الفريق. كن يقفن في صفين متوازيين، ويتقاذفن الكرة باتساق مع صفارة المدرب. فكرت: ثمة زاوية معينة لا يمكن لساقي أنثى منحها للكرة، حتى يبدو أحياناً أن إعاقة ما تفصل ما بين كرة القدم وبين الإناث بشكل فطري. هل هذه هي الحقيقة، أو أنه أنا الذي لم أر في حياتي امرأة تمارس هذا اللعبة قبل هذا الصباح لا شك أن أقدامهن الرقيقة التي حورتها الكعوب العالية لا تتكلم لغة الكرة جيداً زممتُ شفتي بألم مفاجيء عندما رأيتهن يستقبلن الكرة على صدورهن في منتصف التدريب. ما هو موقف النهد يا ترى
لم أظفر من تلك المحاضرة بشيء يذكر. حتى تعليقات المحاضر المتكررة حول تعلقي بالنافذة لم تجعلني أنصرف عنها، كان الحنين قد اندفق فجأة في داخلي، شعرتُ بقدميّ ترتعشان بطفافة، وتتحركان فجأة وكأنها تستعدان لاستقبال الكرة، كان التدريب الذي أراه أمامي قد بدأ يتحول إلى أوركسترا صغيرة، ونبتت أحد عشرة مسلة شقراء من العشب، وراحت الكرات تسافر بينهن مثل دوائر من غيم أبيض، تحسستُ ركبتي، فلم تجبني. لا أدري لماذا كانت ركبتي صامتة جداً
* * * * *
لم أتصور من قبل أن ألم الركبة لا يقل كثيراً عن آلام الجسد الأخرى. لجهلي، كنتُ أعتقد أنها ليست إلا منعطفاً عظمياً لا روح فيه. وعندما ارتطمت بالعارضة الحديدية في الثانوية ظننتُ من فرط الألم أني أنازع، وبكيتُ كثيراً رغم أني احتفلتُ بظهور شاربي جلياً قبل أشهر قليلة، ولم أبال بالأعين الكثيرة التي كانت تراقبني في ملعب المدرسة الكبير، وأنا أترك كل لاعبي المبارة، وأختار أن أرتطم بالعارضة، في ملعب هائل المساحة كهذا كانت الدنيا بأسرها قد تقلصت، وتحولت إلى زوبعة عنيفة تنثر عظام ركبتي، وتغير ملامحها تماماً.
أجريتُ عمليتين، ثم قرر الطبيب أن ليس في الإمكان أفضل مما كان. كان يبدو أن عظام ركبتي قد اختلفت أماكنها، وضاعت الخريطة. فهمتُ من عبارات الطبيب الصارمة أن الكرة صارت شيئاً من الماضي، ولم أحزن كثيراً. كانت آلامي من القسوة أن جعلتني أكره الكرة، وإغواءها الكاذب الذي انتهى بي أخيراً إلى عارضة حديدة، وبكاء مرير أمام مائتي طالب، وركبة شائهة، مخططة، مثل وسم بعير.
وعندما بدأت أمشي مرة أخرى بشكل متزن، انطفأ قلق أمي تدريجياً، وصارت تردد كثيراً على مسمع مني: رب ضارة نافعة
صباح اليوم التالي كنتُ على طرف العشب مرة أخرى. أغراني الربيع الذي غمر بورتلند، والمسلات الشقراء، والعشب الذي يأتي ولا يؤتى إليه. استأذنتُ المدرب العجوز فأذن لي بالمشاركة في المباريات الودية القصيرة التي يمكن أن يختلط فيها الطلاب والطالبات. لبستُ قميصي، وتجاهلت أوجاعاً قديمة في ركبتي عمرها خمس سنوات. أفلتت مني الكرة عدة مرات، لا أدري هل لأنها صقيلة، أو لأني ثقيل. دخلتُ مع الفتيات في مناورات صغيرة لم ابتغ منها أكثر من أبعث رسائل ماضيّ المجيد، فلم أظفر بالكثير، لهثتُ بعد ربع ساعة، واضطررتُ للجلوس بعد ربع ساعة أخرى لالتقط أنفاسي وأرتب سعالي. أطرقتُ، وألقيت عيني الزائغتين في المربع الصغير بين ركبتي المضمومتين وساعدي، شعرتُ بالغربة. ثمة فرق بين مبارة الحارة الرمضانية التي يحفها القرآن، ومباريات الشقر والكرات الصقيلة فوق عشب بورتلند
عدتُ إلى المبارة مرة أخرى وأنا أنفض من رأسي طائر حزن غير مبرر. ركضتُ باتجاه الكرة التي تتقدم بها إحدى الفتيات، عندما اقتربت، علقتُ فيهما بصري لوهلة، وانزلقتُ. كنتُ مسافراً في هذه الحالة الأفقية باتجاهها لعدة أمتار، مرّ بعينيّ اللتين تنظران من أسفل مشاهد عديدة، رأيتُ الشمس على مسافة قريبة من كنيسة الجامعة، ورأيتُ ذيل الحصان الأشقر مقوساً في الهواء مثل مظلة ذهبية، ورأيتُ طبقة من العرق اللامع فوق نحرها، ورأيتُ اهتزازاً موقعاً من نهديها معاً، ورأيتُ قدميها تلتصقان بالكرة وتقفزان بها إلى أعلى، ورأيتُ خيوط حذائها الملونة، وشممتُ وهي تقفز فوقي أرومة العرق الأشقر المختلط بلقاح الأشجار المحيطة.
كانت قد ابتعدت بالكرة، باتجاه المرمى، بينما أنا خارج حدود الملعب.